قبل حوالي عشرين سنة كنا نحلم بهواتف ثابتة في المنازل؛ لتحقيق مبدأ التواصل بين الناس ولو أنها في ذلك الوقت لم تكن تغني عن التزاور والحضور لتقديم واجب المواساة أو مناسبة الفرح، فارتفعت تكاليف الحصول على تلك الخدمة إلى آلاف الريالات إن لم تنعدم في بعض المناطق والأحياء أصلًا، وأصبح من يبحث عنها كمن يبحث عن سراب.
كما كان الغالبية منا يحلمون بالحصول على هاتف سيارة الذي كان عنوان الثراء وسمة الأغنياء، وتجاوز سعره الستين ألف ريال وبالواسطة أيضًا، وهيهات لمن يحلم بذلك !!!.
ثم أفاء الله علينا بنعمة البيجر !!! ويالها من نعمة تستحق الشكر وتتطلب في نفس الوقت الحسرة والابتسامة معًا، لضعف مستوى تلك الخدمة التي لم تكن لتنالها إلا بشق الأنفس وآلاف الريالات لسماع صوت جرس التنبيه فقط داخل الجيب الفارغ.
توالت بعد ذلك النعم، ورأينا الهاتف المتنقل الذي كفانا مؤونة البحث عن هاتف السيارة وهواتف العملة التي اختفتا الى غير رجعة، ولو أن ثمنه في بداية وصوله إلى أراضي مملكتنا الحبيبة تجاوز العشرة آلاف ريال بهدف أن لا يملكه إلا من لديه قدرة على الدفع !!!.
لم يدم الحال طويلًا فقد انتشر الهاتف المتنقل انتشارًا عجيبًا، وأصبح يملكه حتى الحفاة العراة في الصحراء، بل وأصبح مع كل سائق أجنبي أو عاملة منزلية هاتفين فأكثر فضلًا عن الأبناء والبنات الذين صاروا يتباهون بامتلاك الهواتف المتنقلة وهم لازالوا دون سن التمييز !!!.
أحيانًا تركب السيارة مع العائلة، وتصاب بالذهول من كثرة الكلام داخل السيارة، فكل من بداخلها لديه هاتف متنقل مستقل، ومن حقه إجراء أو استقبال أي اتصال كيف ومتى شاء، فتحمد الله حينما تقارن بين الماضي والحاضر، وفي الوقت نفسه تصاب بالأسى والحزن؛ مما وصلنا إليه من استخدام غير مقبول للتقنية الحديثة.
ثم تعددت وسائل التواصل الاجتماعي، وتقلصت تكاليفها المادية إلى أقصى حد، وأصبح العالم كقرية، وأصبح بمقدور أي شخص التواصل مع صديقه البعيد بالصوت والصورة دونما تكاليف باهظة تذكر، لكن …….
لكن كما قال المثل الذي وضعته عنوانًا للمقال (ياليتنا من حجنا سالمينا) !!!
وسائل التواصل الاجتماعي التي أشرت إليها سابقًا ابتداءً بالهاتف الثابت والبيجر، وانتهاءً بالواتس أب وتويتر والفيس بوك بدلاً من أن تكون رافدًا للتواصل الاجتماعي كما يتبادر للذهن، أصبحت سببًا في قطع أواصر التواصل المطلوبة بين كثير من شرائح المجتمع بل وتجاوزت ذلك إلى قطع أواصر القربى بين أبناء الأسرة الواحدة.
كان البعض يتحجج ببعد المسافة، ويقول الاتصال يكفي وياليت ذلك دام، لكن الاتصال اندثر، وحلت مكانه الرسالة التي لا أرى وجاهتها أدبيًا للتواصل مع كبار السن والأقارب، ومن في حكمهم؛ لأن قدرهم أكبر من رسالة بهاتف متنقل إذا أردت الاطمئنان عليهم أو دعوتهم لمناسبة.
ووصل الحال إلى ما هو أسوأ، فلا تكاد تجد مناسبة تخلو من العبث بتلك الأجهزة والانشغال بها دون مراعاة لمكانة المتحدث أو أهمية ما يتحدث عنه، وابتعدنا كثيرًا عن مجالس الرجال التي كنا نتفاخر بارتيادها في زمن الطيبين !!!
وما زاد الأمر سوءًا انتشار لكثير من الإشاعات المغرضة والمقاطع المسيئة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أشرنا إليها، وأصبح عقلاؤنا يتأففون منها، ومن سوء استخدام بعض مواطنينا لها؛ لأنها وبقدر ما حققته من إيجابيات أهدت إلينا كثيرًا من السلبيات التي وبكل صدق لنا اليد الطولى في قبولها وانتشارها.